ليس سراً أن الإدارة الأمريكية كانت واضحة منذ اليوم الأول لتشكيل التحالف الدولي, إذ إنها صرحت أكثر من مرة أن مهمة التحالف هي القضاء على تنظيم داعش الإرهابي، دون أن تضع لها أية استراتيجية واضحة لإدارة المناطق التي ستتحرر من داعش.
قبل انتهاء معركة الباغوز- معقل داعش الأخير بأيام، صرح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بأنهم على وشك القضاء على داعش، ولن يبقى أي مبرر لبقاء قواتهم في شرق الفرات، ليتراجع بعدها عن قرار الانسحاب بضغط من أعضاءٍ داخل إدارته وبعض الحلفاء الإقليميين والأوروبيين في مقدمتهم فرنسا، حينها طرحت الإدارة الأمريكية فكرتين; الأولى: إقامة حظر جوي يؤمن المنطقة، وهذا المشروع بحاجة لموافقة مجلس الأمن الدولي الذي سيصطدم بالفيتو الروسي الذي يطالب بأن يكون للنظام السوري دوراً مهماً في تلك المنطقة، وهذا ما ترفضه أمريكا، لذا لجأت الأخيرة إلى طرح فكرة جديدة، وذلك ببقاء قوات التحالف والطلب من حلفاء عرب وأوروبيين بإرسال قوات لحفظ الأمن في شرق الفرات وتشكيل إدارة جديدة، وذلك بتوسيع المشاركة العربية والسريانية وإشراك الأحزاب الكردية الغير منضوية في الإدارة الحالية لتقليص دور حزب الإتحاد الديموقراطي من جهة وفك ارتباطه بحزب العمال الكردستاني من جهة أخرى، وذلك إرضاءً لتركيا, لكن هذه الفكرة لم تتبلور بعد, أي لم تتحول إلى مشروع ولم يجدول زمنياً حتى هذه اللحظة، والذي كان بمثابة الطرح الأكثر منطقياً وواقعياً من ناحية التطبيق.
من الواضح أن صفقة الصواريخ الروسية التي تم بيعها لتركيا قد دفعت بالأمريكان للعودة إلى طاولة التفاوض مع تركيا، والواضح أيضاً أن الطرفين اتفقا على إقامة منطقة أمنية في شرق الفرات، لكن بوجود خلاف واحد هو العمق الذي تريد تركيا دخوله وهو 35 كم، بينما تريد أمريكا أن يكون 14 كم بحسب المبعوث الأمريكي يوم أمس, أي أن أغلبية المدن الكردية الكبرى ستكون تحت الوصاية، أو بمعنى أدق تحت سلطة الاحتلال التركي.
وهنا ثمة أسئلة تطرح نفسها: ماذا سيكون مصير قوات سوريا الديمقراطية؟ ومن سيدير المنطقة إدارياً إذا دخلت تركيا؟ وهل ستجلب تركيا ميليشيات الائتلاف إلى المنطقة وستأتي بقوافل اللاجئين السوريين وإسكانهم هناك كما فعلتها في عفرين؟
للأسف الشديد, فشلت الحركة الكردية المشتتة في ايجاد حلفاء دوليين وإقليميين, كما أخفقت في توحيد صفوفها وتشكيل إدارة جديدة واتخاذ ما هو مناسب لردع أي عدوان على المنطقة، فالمجلس الوطني الكردي مازال يعول على أن تمنحه تركيا دوراً في المنطقة ويتفق معها بأن تكون المنطقة الأمنية بعمق 35 كم, بالرغم من أن تركيا سبقت وأن وعدتهم بدور في عفرين ولم تفِ بوعودها, أما مجلس سوريا الديمقراطية هو الآخر مازال يعول على بقاء الامريكان, وفي حال انسحابهم على مقاومة الاحتلال في معركة غير متكافئة عسكرياً, وهنالك أطراف أخرى تعول على التفاوض مع النظام لتحقيق مطالب الكرد السياسية, والذي هو نوع من الهراء, لأن النظام السوري هو هو مازال متمسكا برؤيته الشوفينية تجاه القضية الكردية.
الأزمة السورية فرضت على السوريين جميعاً الاختيار بين السيئ والأسوأ, وأعتقد أن الاتفاق بين الأحزاب الكردية لدعوة النظام لدخول المنطقة للحفاظ على الوجود الكردي حل يميل إلى المنطق, لا لأجل تحقيق مطالب سياسية, فالنظام لن يتفاوض الآن, لطالما أمريكا لم تقدم أي مشروع لإبعاد التهديدات عن المنطقة، فذلك أفضل من الاحتلال التركي الذي سيغير طبيعة المنطقة ديموغرافياً, وسيقتل ويخطف كما يفعل في عفرين منذ سنة وأكثر.
بطبيعة الحال النظام السوري لن يسقط من شرق الفرات, ولا تستطيع الحركة الكردية الحصول على حقوقها السياسية دون إيجاد حل سياسي شامل للأزمة السورية وفق مقررات جنيف وبقية القرارات الدولية ذات الصلة, هذا إن توفرت الإرادة الحقيقية لدى صناع القرار للعودة إلى طاولة المفاوضات والبدء بعملية الانتقال السياسي.